في الوقت الذي كان فيه من المفروض على الدولة المخزنية برئاسة محمد الخامس ومعه حفنة حزب الاستقلال تحقيق على الأقل بعض مطالب الجماهير الريفية للحد من اتساع رقعة الثورة على الأقل في بعض جهات الريف الأخرى، كان محمد الخامس وطغاة حزب الاستقلال يجتمعون في مجالسهم الوزارية وفي بعض الأحيان الملحونية لاتخاذ مزيد من القرارات الجائرة والظالمة في حق أهالي الريف بهدف إخماد ثورة الريف الديمقراطية. وبعد سلسلة من المباحثات والمداولات التي كان يشرف عليه محمد الخامس في ظل حكومة بلافريج الاستقلالية (21 ماي 1958 إلى دجنبر 1958) التي اتخذت فيه طبعا عدة قرارات تدعو إلى القضاء على ثورة الريف الأمازيغية بشكل سريع، وفي الوقت نفسه كان يعطي فيه محمد الخامس أوامره وتعليماته لأعوانه المستعمرون الجدد في الريف يطلب منهم قمع وسحق الريفيون المنتفضون، أو «المحرضون «و «الدجالون« كما كانوا ينعتون ويصفون من طرف محمد الخامس، جاءت حكومة جديدة، هذه المرة من الجناح اليساري الرديكالي لحزب الاستقلال يرأسها عبد الله إبراهيم، وما يهمنا نحن في هذا السياق هو أن أهم وأخطر المجالس الوزارية التي انعقدت ضد الريف، كانت تلك المجالس المنعقدة في ظل حكومة عبد الله إبراهيم الاستقلالية (24 دجنبر 1958 -23 ماي 1959) التي كانت توصف تلك الحكومة الإرهابية قسرا وافتراءا بالحكومة »التقدمية« طبعا تقدمية في الإرهاب. لقد كان أولى مجالس الإرهابية هو المجلس الوزاري الحربي المنعقد في يوم 26 دجنبر 1958 تحت رئاسة العلوي محمد الخامس الذي خرج بعدة توصيات وقرارات تدعو كلها إلى سحق الانتفاضة الأمازيغية في الريف و قتل ثوارها بالتدخل العسكري و بالأسلحة الثقيلة، وقد صادق على القرار كل من سلطان المخزن محمد الخامس والقيادة العليا للجيش المخزني أمثال الجنرال الكتاني والجنرال أمزيان، هذا دون أن ننسى رئيس أركانها الحسن الثاني، هذا بالإضافة إلى كل من رئيس الحكومة عبد الله إبراهيم ووزير الداخلية إدريس المحمدي ووزير الدفاع المخزني أحمد اليزيدي من حزب الاستقلال الذي كان ضابط سابق في الجيش الفرنسي الاستعماري، علاوة على شخصيات سياسية وحزبية أخرى أمثال علال الفاسي والمهدي بن بركة واللائحة طويلة، وبخصوص هذا الأخير أود أن أذكر هنا أن هذا المدعو المهدي كان قد صرح للصحفي الفرنسي جين لاكوتر (Jean Lacouture ) وقت ذاك أي في سنة 1958 ردا على سؤال حول الأزمة الأمازيغية في المغرب عقب أحداث تافيلات وانتفاضة الريف وقال “… إن المشكلة البربرية المزعومة ليست سوى أحد رواسب السياسة الثقافية التي سلكتها الحماية. فهي ثمرة مدارس الأعيان المخصصة لأبناء الطبقة الأرستقراطية المدينية التي كانت تدرك أهميتها بالنسبة لتكوين ناشئتها… إن الرجل البربري هو، بكل بساطة، شخص لم يسبق له أن ذهب إلى المدرسة.” (أنظر أرضية : الإختيار الأمازيغي).
بعد 11 يوما على القرار المخزني الذي اتخذه المجلس الوزاري الحربي القاضي بسحق الريف وقتل أهاليه، جاءت محطة 6 يناير 1959 ليعطي فيه محمد الخامس مهلة 48 ساعة للسكان الريفيين المنتفضين في جبال الريف لينزلوا من تلك الجبال ويعودوا إلى بيوتهم ومنازلهم ويقبلوا بأمر الواقع المر، وكان ذلك في خطاب إذاعي، أذيع عدة مرات عبر أمواج الإذاعة المخزنية باللغة الريفية، وحول هذا الموضوع كتبت جريدة »لومند« الفرنسية من خلال مراسلها في المغرب في عدد 7 يناير 1959 تقول » في الحقيقة كان نداء الملك موجها للجماهير الريفية بالدرجة الأولى. كانت الإذاعة الوطنية تعيد هذا النداء بانتظام وبلهجة الريف والأمازيغية«. هذا وقد صاحب خطاب محمد الخامس المسموم توزيع 100 ألف منشور بالعربية يكرر فيه ما جاء في نداء محمد الخامس وتحذيره، الذي ألقي بواسطة الطائرات في عدة مناطق من الريف قبل إلقاء قنابل النابلم، ومما جاء في ختام نداء محمد الخامس إلى سكان الريف “لا نسمح لأي فرد ولا جماعة من الدجالين ودعاة الفتنة والتفرقة بالاستمرار في مخادعة الشعب وتغليطه ومواصلة أعمالهم الهدامة والتآمر على وحدة الوطن واستقلاله. ونحن عازمون على استعمال كل الوسائل للضرب على أيديهم الأثيمة ووضع حد لجرائمهم.( فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) “.
هذا والجدير بالذكر هنا إلى أن محمد الخامس كان قد سبق له أيضا أن وجه خطاب إذاعي إلى عدة مناطق أمازيغوفونية الثائرة وترجم الخطاب إلى مختلف اللغات الأمازيغية حسب كل منطقة، والذي كان قد وجهه على وجه الخصوص إلى كل من أمازيغ الريف والأطلس والمناطق المحاذية لفاس، علاوة على المنتفضون في تافيلالت وكذلك المنتفضون في المناطق المجاورة للجزائر في ناحية فكيك ووجدة يدعو فيه محمد الخامس سكان تلك المناطق الأمازيغية بالتزام الهدوء وإيقاف الثورة بالعودة إلى حياتهم اليومية السابقة وقبول تلك الحياة الصعبة والمؤلمة، وفي الوقت نفسه يحذرهم من عواقب وخيمة ومن الانتقام إذا لم يعملوا على وقف أعمال الثورة، وحول هذا الموضوع كتبت جريدة “لومند” الفرنسية في عد 4 نونبر 1958 تقول ” أقدم الملك على مخاطبة سكان الجبال الساخطين بثلاثة لغات على أمواج الإذاعة الوطنية، فكون الملك اختار استعمال اللغة الأمازيغية بدل لغة الرسول محمد، يعني أن القصر لا يريد تفويت أية فرصة لبسط نفوذه كما أنه أدرك أهمية خصوصيات المناطق الجبلية”.
فعلا لقد هدد محمد الخامس في خطاباته السابقة وخطابه الأخير التحذيري والإنذاري في يوم السادس من شهر يناير 1959 سكان الريف المنتفضون في الجبال بأقصى العقوبات وبالعقاب الشديد، وأنه سيرسل إليهم حملة “تأديبية” لترهيبهم و”تأديبهم” بعد أن تنتهي المهلة المحددة في يومين وبالضبط تنتهي في يوم الأربعاء 7 يناير 1959 والذي سيشهد ذلك التاريخ طرد الصحفية “إيمليا أرغون” من مكتبها بالرباط، التي كانت تنشر من هناك تقارير اخبارية عن أحداث الريف في “التايم” و”اللايف” من خلال علاقتها المباشرة مع بعض ثوار حركة الريف، ويبدو أن المخزن كان يريد من خلال ذلك إخفاء ما سيفعله في حملته على الريف بعد يوم الأربعاء.
لم تكن تهديدات محمد الخامس المخيفة التي كان يطلقها من الرباط، ويأمر فيه المنتفضون الأمازيغ في مرتفعات الريف بأن يوقفوا المقاومة ضد المخزن وحزب الاستقلال وأن ينزلوا من الجبال ويعودوا إلى بيوتهم وديارهم وأن يقبلوا العيش تحت الحكم المخزني والحزبي، أن تمر دون أن يستجيب له بعض معتصمي جبال الريف من الناضور إلى تطاوين ولاسيما بعض الشيوخ والنساء والأطفال وبعض الأسر الريفية التي لبت النداء لسبب من الأسباب قبل الوقت المحدد، الذي كان قد حدده محمد الخامس في يوم الأربعاء 7 يناير 1959 على الساعة الواحدة بعد الزوال، غير أن الجزء الكبير من الريفيين ولاسيما في منطقة آيت ورياغل القوية والشجاعة رفضت الاستجابة لنداء وتهديد محمد الخامس الذي كان يذاع باستمرار في أبواق الإذاعة المخزنية باللغة الريفية -ليس حبا في تلك اللغة وإنما كوسيلة غايتها إبادة تلك اللغة والناطقين بها- ، إلا إذا استجاب المخزن لمطالب حركة الريف العادلة والمشروعة. طبعا كان ذلك في الوقت الذي بدأت فيه جحافل القوات المخزنية تغزو بلاد الريف بقيادة ولي العهد آنذاك الحسن الثاني على رأس عشرون ألف جندي بالكمال والتمام، وأيضا في الوقت الذي بدأت فيه القوات الجوية المظلية تنزل في ميناء الحسيمة الذي كان هذا الأخير محاصر من طرف أصحابه المقاومون الريفيون، وحول هذا الموضوع كتبت جريدة “تراو” (trouw) الهولندية في عدد 9 يناير 1959 تقول “وقد حاصرت مجموعة من المتمردين الأمازيغ، الذين رفضوا الاستسلام، ميناء الحسيمة واختفى خمسون جنديا كانوا في طريقهم إلى مدينة الحسيمة. وفي يوم الثلاثاء كانت هناك مواجهات في المنطقة بين المتمردين والقوات النظامية ووقعت في كلا الطرفين أضرار كثيرة والبارحة تم إرسال قوات تعزيزية إضافية. وحسب الأنباء الواردة من المنطقة، احتل المتمردون مطار الحسيمة”.
أول عمل تكتيكي قام به حكام الدولة المخزنية في بلاد الريف قبل إبادة سكانه، ولاسيما محمد الخامس وعلال الفاسي هو رسم خطة فريدة من نوعها للمكر والغدر والبطش بأولئك الريفيين الذين سينزلون من الجبال التي كانت تحميهم من بطش طغاة المخزن وحزب الاستقلال، إذ مباشرة بعد نداء محمد الخامس الشهير سيقوم الماكر علال الفاسي بعدئذ، وبالضبط قبل انتهاء المهلة بيوم واحد بتوجيه هو أيضا نداء “خداعي” إلى سكان الريف يطلب منهم النزول من الجبال والعودة إلى البيوت، ويوهمهم بأن نزولهم من الجبال سوف لن يصاحب بالاعتقال والمتابعة والعقاب من طرف رجال الدولة، وفي الوقت نفسه يحذرهم من عقاب شديد إذا لم يستجيبوا لنداء محمد الخامس، هذا علاوة على توصية أتباعه في حزب الاستقلال الذين كانوا يحتلون البلاد ويعيثون فيه فسادا بإسماع خطاب محمد الخامس المسموم في قرى ومداشر الريف من أجل أن ينزل المعتصمون الريفيون من الجبال، وفي علاقة بهذا الموضوع كتبت جريدة “لوموند” في الثامن من يناير 1959 تقول بأنه قبل انتهاء المهلة بيوم واحد وجه ” سي علال الفاسي عبر الإذاعة الوطنية نداء من أجل الهدوء وطالب مناضلي حزب الاستقلال بإسماع الخطاب الملكي في قرى الريف”.
طبعا لا نداء محمد الخامس ولا نداء علال الفاسي كان ليجعل الجيش المخزني بقيادة الحسن الثاني يتراجع عن قرار اتخذه في مهاجمة الريف وقتل أبناءه، بقدر ما كانوا يخدعان ويكذبان على الريفيين في النداء، حيث كانوا يوهمون الأهالي أن نزولهم من الجبل سيكون في صالحهم وأنهم لن يتابعون أو يعاقبوا من طرف رجال المخزن وحزب الاستقلال، لكن الواقع كان غير ذلك، اذ بعد استجابة بعض الريفيين ذوي النيات الضعيفة لنداء الرباط ونزلوا من الجبل الذي كان يحميهم من الإرهاب والتعريب المخزني، سيستغل المخزن الفرصة وتعود حليمة المخزنية إلى عادتها القديمة، حيث سيعود المخزن إلى أسلوبه المعتاد الذي سبق له أن انتهجه لأكثر من مرة في بلاد الريف، وهو أسلوب المكر والغدر والشماتة والبطش والقتل بأولئك الريفيين الذي سينزلون من الجبل، وهذا إنما يذكرنا بأسلوب السفاح المخادع بوشتى البغدادي.
مع وصول التعزيزات المخزنية إلى بلاد الريف والتحاق القوات الملكية المسلحة بمنطقة الريف الأوسط في حالة حرب وغزو في بداية يناير 1959 أو في “عام إقبارن”، كما سيعرف ذلك العام تاريخيا عند سكان الريف أي عام تواجد الخودات العسكرية، سيقوم جنود المخزن أو آيت بوقبارن (أصحاب القبعات الحديدية) بقيادة البوقبار الحسن الثاني بالهجوم على أهالي الريف ومطاردتهم بالكلاب البوليسية، بعد أن خدعوا بأكاذيب الرباط وفاس عبر الإذاعة المخزنية ونزلوا من الجبل الريفي الذي كان يحميهم من بطش آيث بوقبارن، والأدهى من هذا، لم يستثنى من المطاردة المخزنية والكلاب البوليسية حتى الذين لم يطلعوا قط إلى الجبل، وعن هذا الهروب الاضطراري يقول مصطفى أعراب، الصحافي بالإذاعة الريفية بهولندا وصاحب مؤلف حول أحداث الريف لسنة 1959 إن “الروايات الشفوية المتداولة تشير إلى وقائع غريبة. كان المواطنون قد استجابوا فعلا لنداء الملك غير أن القوات الملكية المسلحة التي التحقت بالمنطقة في حالة حرب هي التي أرغمت الجماهير على الهروب إلى الجبال”.
وأثناء المطاردة لم يراع آيت بوقبارن إطلاقا التمييز بين الرضيع والطفل والشيخ والمرأة، ومارس خلال الهجوم والمطاردة أبشع أشكال الاضطهاد والإذلال والبطش والقتل في حق سكان الريف، أما الذين لم يقتلوا ووقعوا في أيدي المخزن وميليشيات حزب الاستقلال فقد كانوا ينقلون إلى سجونهم ومعتقلاتهم الجهنمية، وهناك كانوا يعذبون بأبشع أشكال و أساليب التعذيب المعروفة آنذاك، وفي حالات عديدة كانوا يعذبون حتى الموت للبحث عن المعلومات والانتقام. وإلى جانب التعذيب الجسدي انتهج الجلادون أيضا أسلوب التعذيب النفسي من القذف والشتم بكلمات نابية تحقيرية مخلة بالأخلاق أمام مسمع أسرة الضحية وذلك لإلحاق مزيد من الأذى النفسي بالمعتقلين والمختطفين الريفيين، علاوة على أشكال وأساليب أخرى التي من شأنها أن تحط من كرامة وكبرياء وإنسانية الإنسان الريفي الأمازيغي، ومن نماذج تلك الأساليب الدنيئة التي كان ينتهجها جلادوا المخزن لإحتقار الإنسان الريفي، نورد هنا شهادة أحد ضحايا المخزن الذي كان أوفر حظا بكثير من إخوانه الريفيين الأخرين، يقول ” يحزنني كثيرا عندما أتذكر تلك الفضاعات، ويحزنني أكثر عندما أتذكر ذلك “الرجل” الذي لم تراه عيناي المعصبتين، اللتان حجب عنها النور في دهاليز ثكنة قوات التدخل السريع بمدينة وجدة، عندما قال لي وهو يستعد ليدخل معي في “معركة ” التوقيع على المحضر الذي سأحكم به: “وبما أنك ريفي مساخط ديال سيدنا غادي نضيف ليك هدجوج د الكلمات باش نتهلا فيك مزيان أو نغبر دين أماك أولد الريفية الخانزة” “، ونفس الشيء حصل على سبيل المثال مع المرحوم محمد أكروح بن عمر “ميس ن عمار” الساكن قيد حياته بدوار اغميرن بآيت بوعياش الذي اعتقل في الأسبوع الأول من شهر يناير 1959 من طرف آيث بوقبارن، ومكث ثلاثة أشهر في معتقلات المخزن الرهيبة، حيث ذاق هناك مرارة العذاب وقسوة الضرب وأبشع أشكال التعذيب الجسدي والنفسي كما تؤكده زوجته علية البقوجي بنت محمد الحاج محمادي بنت فظمة بنت موحند أغدار في ملفه إلى ما يسمى بهيئة الانصاف والمصالحة لطلب التعويض وجبر الضرر إثر اعتقال زوجها المرحوم محمد أكروح خلال شهر يناير 1959 ، والذي نتوفر على نسخة منه.
لم تكن هذه الأعمال الإرهابية وغيرها التي كان يرتكبها جنود المخزن وميلشيات حزب الاستقلال وحزب الإصلاح الوطني أن تمر دون أن ترغم سكان الريف والناجون من بطش “إمخزنيان ن علوي” على الهروب الاضطراري والعودة إلى مرتفعات الريف البعيدة عن قوى الشر المخزنية والحزبية، لحماية أنفسهم وحماية أبنائهم وبناتهم من الاغتصاب والاعتقال والاختطاف والتعذيب والقتل من طرف سفاحوا آيت بوقبارن، وقد بقي هذا التاريخ من الهروب الاضطراري موشوما ومرسوما في الذاكرة الشعبية عند سكان الريف، ويعرف الآن ب “عام ن ثورا” أي “عام الهروب” ، هروبا من التعذيب المخزني و الحزبي التي بقيت ذكراه مشوؤمة و موصومة العار في التاريخ المغربي الرسمي الاستعماري في بلادنا الأمازيغية، و لا تزال الذاكرة الجماعية عند أهالي الريف تحتفظ بأحداثها المأسوية و المؤلمة و تعبر عنه بـ “أعموذ ن يحيى” للدلالة على التعذيب المبرح جدا الذي لقاه أهالي الريف على يد جنود الملك، المشابه لحد ما لـ “أعموذ ن حياني” الذي له حكاية أخرى من حكايات مأسي الريف.
يتبع…